فصل: حضور الحد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الكلام فيمن يلي الحد:

الخطاب في قوله تعالى: {فَاجْلِدُوا} لأولياء الأمر من الحكام، لأنّ هذا حكم يتعلّق باستصلاح الناس جميعا، وكل حكم من هذا القبيل فإنما تنفيذه على الإمام.
وقد جعل الفقهاء مثل هذا الأمر من الأدلة على وجوب نصب الخليفة، لأنه تعالى أمر بإقامة الحد، ولا يقوم به إلا الإمام، وما لا يتم الواجب إلا به يكون واجبا.
ولا نعلم خلافا في أنّ الذي يلي إقامة الحد على الأحرار إنما هو الإمام أو نائبه.
أما الأرقاء ففيمن يلي حدهم خلاف. فالإمامان مالك والشافعي يجيزان للسيد أن يحد عبده وأمته في الزنى والخمر والقذف. وللشافعي في السرقة قولان، والإمام أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر يقولون لا يملك السيد أن يقيم حدا ما.
احتجّ مالك والشافعي بما أخرجه الستة غير النسائي من قوله صلّى اللّه عليه وسلّم في الأمة: «إن زنت فاجلدوها» الحديث، وبما روى مسلم وأبو داود والنسائي عن علي رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم من أحصن ومن لم يحصن».
وبما روي عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أنه أقام حدا على بعض إمائه، فجعل يضرب رجليها وساقيها، فقال له سالم رحمه اللّه: أين قول اللّه تعالى:
وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ؟ فقال: أتراني أشفقت عليها، إنّ اللّه لم يأمرني أن أقتلها.
ولم يكن ابن عمر واليا ولا نائبا عن وال. وبأنّ الإمام لما ملك إقامة الحد على العبد كان السيد بإقامته أولى، لأن تعلّق السيد بالعبد أقوى من تعلق الإمام بالرعية، إن الملك أقوى من عقد البيعة، وإقامة الحد من السيد إنما هي بطريق الملك لغرض الاستصلاح كالحجامة والفصد.
واحتج الحنفية بأنّ قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ} عامّ في كل زان وزانية، والخطاب فيه لا شك أنه خطاب مع الأئمة دون سائر الناس، ولم يفرّق في المحدودين بين الأحرار والعبيد، فوجب أن تكون إقامة الحد على الأحرار وعلى العبيد للأئمة دون سائر الناس.
ثم أجاب الحنفية عن الأحاديث التي يفيد ظاهرها إثبات حد الأرقاء لمواليهم بأن المراد أن الموالي يرفعون أمر عبيدهم إلى الحكام ليجلدوهم ويقيموا الحد عليهم، وجلد ابن عمر بعض إمائه إن صحّ كان رأيا له لا يعارض العموم في الآية.

.حكم اللواط والسحاق وإتيان البهائم:

قال اللّه تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ فخصّ هذا الحكم بالزنى، ومعلوم أنّ العرف واللغة يفرّقان بين الزنى واللواط والسحاق وإتيان البهائم، فليس واحد من هذه الثلاثة الأخيرة داخلا في حكم الآية.
ولما نقل عن الشافعي في أصح قوليه: إن حكم اللواط كحكم الزنى قال بعض أصحابه: إن اللواط زنى، لأنّه مثل الزنى في الصورة وفي المعنى، فيكون اللائط زانيا فيدخل في عموم الآية.
وهذا القول ليس بسديد لأنّه يصادم العرف واللغة، ألا تراه لو حلف لا يزني فلاط أو بالعكس لم يحنث، وكيف يكون اللواط زنى، وقد اختلف الصحابة في حكمه، وهم أعلم باللغة وموارد اللسان.
وقال بعض آخر من الشافعية: اللواط غير الزنى، إلا أنه يقاس عليه بجامع كون الطبع داعيا إليه فيناسب الزاجر، وهذا أيضا ليس بسديد، لأنه بعد تسليم أن الطبع يدعو إلى اللواط فإنّ الزنى أكثر وقوعا، وأعظم ضررا لما يترتب عليه من فساد الأنساب، فكان الاحتياج فيه إلى الزاجر أشد وأقوى.
ولعل أقوى أدلة الشافعي فيما ذهب إليه ما رواه أبو موسى الأشعري عنه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال: «إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان» فإنّ هذا الخبر إن لم يدل على اشتراك اللواط والزنى في الاسم والحقيقة فلا أقل من اشتراكهما في الحكم، وبقول الشافعي هذا قال أبو يوسف ومحمد.
والقول الثاني من قولي الشافعي في حد اللائط: إنه يقتل: إما بحز الرقبة كالمرتد، وإما بالرجم، وهو مروي عن ابن عباس، وقول أحمد وإسحاق، ورواية عن مالك، وإما بالهدم عليه، ويروى عن أبي بكر الصديق، وإما بالرمي من شاهق، وهو مشهور مذهب مالك.
وقال أبو حنيفة رحمه اللّه: ليس في اللواط حد، بل فيه تعزير، لأنه وطء لا يتعلق به المهر، فلا يتعلق به الحد، ولأنه لا يساوي الزنى في الحاجة إلى شرع الحد، لأن اللواط لا يرغب فيه المفعول به طبعا، وليس فيه إضاعة النسب، وأيضا فقوله صلّى اللّه عليه وسلّم: «لا يحلّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: زنى بعد إحصان، وكفر بعد إيمان، وقتل نفس بغير حق» قد حظر قتل المسلم إلا بإحدى هذه الثلاث، وفاعل ذلك خارج عن ذلك، لأنه لا يسمى زانيا، وأنت تعلم أنّه لم يثبت عنه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قضى في اللواط بشي ء، لأنّ هذا المنكر لم تكن تعرفه العرب، ولم يرفع إليه صلّى اللّه عليه وسلّم حادثة منه، ولكن ثبت عنه أنه قال: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» رواه أصحاب السنن الأربعة وإسناده صحيح، وقال الترمذي: حديث حسن.
وحكم أبو بكر الصديق بقتل اللائط، وكتب به إلى خالد بن الوليد بعد مشاورة الصحابة.
ونقل بعض الحنابلة إجماع الصحابة على أنّ حدّ اللواط القتل، وإنما اختلفوا في كيفيته: فمنهم من قال: يرمى من شاهق، ومنهم من قال: يهدم عليه حائط، ومنهم من قال: يقتل رميا بالحجارة.
هذا ولا نعلم خلافا بين الفقهاء في أن السحاق لم يشرع فيه إلا التعزير.
وأما إتيان البهائم ففي رواية عن أحمد أنه كاللواط، عقوبته القتل، وهو قول مرجوح عند الشافعية. والصحيح أنّه ليس فيه إلا التعزير.

.صفة الجلد:

قوله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} قد تأوّله جماعة على أنّه نهي عن التخفيف في الجلد، وتأوله آخرون على أنه نهي عن ترك الحد وإسقاطه، ولا مانع عندنا من أن يكون اللفظ منتظما للمعنيين، أي لا ترأفوا بهما فتسقطوا الحد عنهما أو تخففوه، بل الواجب استيفاؤه كاملا غير منقوص وإذا ضم ذلك إلى ما يفهم من قوله تعالى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ} أي اضربوا جلدها ضربا لا يتجاوز الألم فيه الجلد إلى اللحم كان المطلوب بمجموع اللفظين أن يكون الجلد على حد الاعتدال.
روى عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي قال: أتي عمر بسوط فيه شدة، فقال: أريد ألين من هذا، فأتي بسوط فيه لين، فقال: أريد أشدّ من هذا، فأتي بسوط بين السوطين فقال: اضرب ولا يرى إبطك، وأعط كل عضو حقه، وروي مثل ذلك عن ابن مسعود وعلي وأنس بن مالك رضي اللّه عنهم.
واتفق العلماء جميعا على أنّ الضارب يتقي الوجه والفرج. وروي عن علي كرّم اللّه وجهه استثناء الرأس أيضا، وبه قال أبو حنيفة ومحمد.
وينبغي أن ينزع عن المحدود ما يمنع من الثياب أن يصل إليه ألم الضرب، كالحشو والفراء، لأنّ الضرب فوق الحشو والفرو لا يسمّى ضربا في العادة، ألا ترى أنّه لو حلف أن يضرب فلانا فضربه وعليه حشو أو فرو فلم يصل إليه الألم أنه لا يكون ضاربا ولم يبر في يمينه، ولو وصل إليه الألم كان ضاربا.

.تحريم الشفاعة في الحدود:

قلنا إن قوله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} معناها النهي عن تخفيف الحد وإسقاطه، فيكون في ذلك دليل على أنّه لا تجوز الشفاعة في إسقاط حد الزنى، لأنّ فيه تعطيلا لحدود اللّه أن تقام، وليس ذلك لخصوصية في الزنى، بل مثله سائر الحدود تحرم الشفاعة فيها، فقد صحّ أنه عليه الصلاة والسلام أنكر على حبّه أسامة بن زيد حين شفع في فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد المخزومية، وكانت سرقت قطيفة أو حليا، فقال له: «أتشفع في حد من حدود اللّه تعالى» ثم قام فاختطب فقال: «إنما أهلك الذين من قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم اللّه لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» أخرجه الخمسة.
وعن ابن عمر رضي اللّه عنهما أنّه سمع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «من حالت شفاعته دون حدّ من حدود اللّه تعالى فقد ضادّ اللّه عزّ وجلّ» أخرجه أبو داود.
وكما تحرم الشفاعة في الحدود يحرم على الإمام قبول الشفاعة فيها، فعن الزبير بن العوام رضي اللّه عنه أنه لقي رجلا قد أخذ سارقا يريد أن يذهب به إلى السلطان فشفع له الزبير ليرسله، فقال: لا حتى أبلغ به إلى السلطان، فقال الزبير:
إنما الشفاعة قبل أن يبلغ السلطان، فإذا أبلغ السلطان لعن الشافع والمشفع. أخرجه مالك وفي رواية أنّه قال: إذا بلغ الحد إلى الإمام فلا عفا اللّه عنه إن عفا.
وأما قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فالغرض منه التهييج والإلهاب والحث على الامتثال كما يقال للرجل: إن كنت رجلا فافعل كذا، ولا شكّ في أنه رجل، كذلك المخاطبون لا شك في أنّهم مؤمنون، لكن قصد تهييجهم، وتحريك حميتهم، ليجدّوا في طاعة اللّه تعالى، ويجتهدوا في إجراء أحكامه على وجهها، وفي ذكر اليوم الآخر تذكير لهم بما فيه من العقاب ليستأصلوا عاطفة اللين في استيفاء حدود اللّه تعالى، وفي الحديث: «يؤتى بوال نقص من الحد سوطا فيقال له، لم فعلت ذاك؟ فيقول: يا رب رحمة بعبادك، فيقول له: أنت أرحم بهم مني، فيؤمر به في النار».

.حضور الحد:

ظاهر الأمر في قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} يقتضي وجوب الحضور على طائفة من المؤمنين، لكنّ الفقهاء أجمعوا على أنّ حضور الجمع مستحبّ لا واجب، والمقصود من حضورهم إعلان إقامة الحد للتنكيل وللعبرة والموعظة.
واختلف العلماء في هذه الطائفة: فعن مجاهد والنخعي وأحمد: هي في الآية واحد. وقال عطاء وعكرمة وإسحاق: اثنان فصاعدا، وهو القول المشهور لمالك وقال قتادة والزهري: ثلاثة فصاعدا، وعن الشافعي وزيد أربعة بعدد شهود الزنى، وقال الحسن: عشرة، وعن ابن عباس الطائفة: الرجل فما فوقه إلى أربعين رجلا من المصدقين باللّه، وأولى الأقوال بالصواب أنّ المراد بالطائفة هنا جماعة يحصل بهم التشهير والزجر، وتختلف قلة وكثرة بحسب اختلاف الأماكن والأشخاص.
وفي قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما} دليل على أنّ هذا الحد عقوبة لا استصلاح من قبل أنّه سماه عذابا، ولو كان الغرض منه الاستصلاح لكان الأولى به أن يسمّى تأديبا، ويمكن أن يراد من العذاب ما يمنع من المعاودة كالنكال، فيصح أن يكون الغرض منه الاستصلاح.